23/08/2009 11:52:20 AM (GMT)
معالم حضارة عريقة |
السرايا الحمراء.. تروي حكاية مدينة عبر العصور
عمر الكدي
تقع السرايا الحمراء أو قلعة طرابلس في قلب المدينة، في الركن الشمالي الشرقي من المدينة، وفي العادة يكون قلب المدينة في منتصفها، ولكن لأن المدينة نشأت بجوار القلعة، ولأن القلعة صممت منذ البداية للدفاع عن المدينة، فقد تمكنت من جر طرابلس من كثبانها الرملية إلى أمواج المتوسط.
تبلغ مساحة القلعة 1300 مترا مربعا، وكانت على الدوام مركز حاكم المدينة، ثم مركز حاكم البلاد، منذ أن أسس الفينيقيون المدينة وهم يجوبون المتوسط للتجارة انطلاقا من موطنهم في صيدا وصور. كانوا بحاجة إلى مرافئ يستريحون فيها من عناء الأمواج والحبال، وتكون أسواقا لبضائعهم التي جلبوها من كل نواحي حوض المتوسط.
على الساحل الليبي بنوا ثلاث مدن متقاربة: أويا، صبراته، ولبدة الكبرى. في العصر الروماني تحول اسم المدينة من أويا إلى طرابلس، أو بالتحديد تريبولي لأن الرومان وجدوا أمامهم ثلاث مدن فأطلقوا على الإقليم اسم المدن الثلاث كما تعني كلمة "تريبوليس" اللاتينية، ولكن طرابلس التي تضخمت استحوذت على الاسم فيما بعد.
بالرغم من أن أسس القلعة يعود إلى مرحلة الفينيقيين الذين أسسوا قرطاج في تونس فيما بعد، وتخلوا عن المدينة للرومان، إلا أن الرومان هم من منحها هذه المساحة، بينما منحها الأسبان الذين احتلوها عام 1510 بقيادة دي نفارو شكلها الحالي وارتفاع أسوارها التي تصل إلى 21 مترا، وأيضا لونها الأحمر، وبالتالي اسمها الجديد "السرايا الحمراء".
عندما وصل الأتراك عام 1551 بقيادة سنان باشا ودرغوث باشا تحولت القلعة إلى مقر الوالي العثماني الذي يحكم البلاد باسم الباب العالي. رممت الأسوار وارتفعت أبراج جديدة نصبت فوقها المدافع لحماية المدينة، وقصف أي هدف بحري يظهر بعد السور المرجاني خلف الميناء، ومن هناك انطلقت قوارب القراصنة تجوب المتوسط الكبير، وتعود بالغنائم، وتحولت القرصنة البحرية إلى أهم مصادر دخل المدينة حتى القرن التاسع عشر، عندما أصبح للأوروبيين سفنا تسير بقوة البخار، وقوة نارية تدك القلعة ومن خلفها المدينة.
في العصر القرهمانللي الذي بدأ عام 1711 بصعود أحمد باشا القرهمانللي سدة الحكم في طرابلس، بعد أن نجح في ذبح كل الانكشاريين في حفل عشاء، تحولت القلعة إلى بلاط للأسرة التي تجري في عروقها دماء تركية من ناحية الأب، ودماء ليبية من ناحية الأم، وهي ظاهرة تكررت في عدة مناطق من ليبيا نتج عنها ظهور قبائل جديدة تعرف باسم "الكراغلة" أو "الكوراوغلية " كما في اللغة التركية، وهي القبائل التي تنحدر من جد تركي وجدة ليبية.
سرعان ما نسى القرهمانليون لغتهم التركية وتحولوا إلى ليبيين، وأصبحت في عهدهم ليبيا مستقلة تتبع اسميا الدولة العثمانية، ولم يفقدوا السلطة إلا في عام 1895 عندما وصل على الجزائرلي أو علي برغل كما يعرف في بعض المراجع على رأس أسطول كبير، ومعه فرمان مزور من السلطان العثماني يخوله حكم ليبيا. لكنهم سرعان ما استعادوا سلطتهم بمساعدة من حاكم تونس، ومنذ ذلك الحين استولى يوسف باشا القرهمانللي السلطة من أخويه الأكبر منه سنا، حيث قتل ولي العهد وهو في حضن أمه، بينما أرسل أخيه أحمد ليكون واليه على بنغازي.
في عام 1801 فرض يوسف باشا الإتاوة على السفن الأمريكية، التي انطلقت من العالم الجديد بعد أن تمكنت الولايات المتحدة من الحصول على استقلاله، وبالتحديد في عهد جيفرسون الذي جاء بعد المؤسس جورج واشنطن، وعند سور قلعة طرابلس دارت رحى أول حرب تخوضها الولايات المتحدة خارج أرضها، وهناك تمكن البحارة الليبيون من أسر فخر البحرية الأمريكية البارجة فيلادلفيا. لم يحتمل الأمريكيون هذه الخسارة، فنزلوا متسترين بالظلام ليحرقوا بارجتهم. لكن البحارة الذين كانوا على متنها والبالغ عددهم 309 وضعوا في سجن القلعة. لذلك يحتوي نشيد البحرية الأمريكية حتى الآن على جملة تقول "من مرتفعات منتيزونا إلى شواطيء طرابلس".
وحتى بعد أن استعاد الأتراك حكمهم المباشر لليبيا عام 1832، بعد أن نفوا معظم الأسرة القرهمانللية إلى تركيا، ماعدا يوسف باشا ونساءه الإفريقيات اللواتي كن يتسولن من أجله، حيث أدركته الشيخوخة و فقد بصره بالكامل، ذلك الطاغية الذي حكم ليبيا 38 سنة متواصلة، وملأ خزائنها بأموال القرصنة، وتجارة العبيد، ثم أنفق كل الأموال على ملذاته، في بلاط السفراء في السرايا الحمراء.
الإيطاليون الذين احتلوا المدينة عام 1911 نقلوا كل المكاتب الحكومية خارج القلعة، وبنى حاكم ليبيا الفاشستي بالبو القصر الذي يوجد في نهاية شارع الاستقلال، والذي عرف باسمه، ثم عرف باسم قصر الملك إدريس، وأخيرا عرف باسم قصر الشعب، وفي عام 1919 تحولت القلعة إلى متحف للمرة الأولى في تاريخها.
في البداية اكتفوا ببناء قديم يقع إلى جوار القلعة من ناحية الجنوب، والذي كان يستخدم خلال العهد العثماني الثاني كمركز للشرطة، وحوله الإيطاليون فور نزولهم إلى طرابلس إلى مخزن للذخيرة. فيما بعد تم تعديل المخزن الذي يصل طوله إلى 30 مترا، وحوالي عشرة أمتار عرضا، والمقام على ستة أعمدة ليكون أول متحف في تاريخ ليبيا.
في مطلع عشرينات القرن الماضي أزيلت كل ملحقات القلعة بما في ذلك المخزن المذكور، وتحولت كل القلعة إلى متحف أفتتح عام 1930 على يد الحاكم بالبو، الذي سرعان ما بهرته القلعة فنقل إليها مكتبه، ليتولى تصريف شؤون البلد من جزء صغير في القلعة.
بعد سيطرة البريطانيين على البلد خلال الحرب العالمية الثانية سعوا عن طريق اليونسكو إلى إنقاذ التحف الأثرية التي لا تقد بقيمة، وفي عام 1948 تحولت كل القلعة إلى المتحف الليبي، لتشمل متحف ما قبل التاريخ، متحف القبائل الليبية القديمة، متحف التراث الليبي في العصر البونيقي، العصر اليوناني، العصر الروماني، العصر البيزنطي، متحف التاريخ الطبيعي، وأخيرا أضيف في عهد العقيد معمر القذافي متحف عصر الجماهير.
في متحف السرايا الحمراء تتجلى الحقيقة وتتضح للعيان معالم حضارة عريقة رسمت جزءاً كبيراً من تلك الأساطير والحكايات القديمة ورصدت كتبا عدة عن المآثر والصور لكل ما هو قديم يعبر عن حقبات زمنية لم تفنى بفناء أصحابها، وبقيت صامدة أمام كل التحديات التي واجهت المنطقة بمرور الأزمان
No comments:
Post a Comment