Tuesday, 22 September 2009

المدينة القديمة في طرابلس: عالم من الأقاصيص والحكايات التي لا تنتهي

21/06/2009 10:50:11 AM (GMT)

تشهد صياغة الذهب تطورا مستمرا

المدينة القديمة في طرابلس: عالم من الأقاصيص والحكايات التي لا تنتهي

ليبيا 24- فيحاء العاقب: عن مدينة تعشق من النظرة الأولى، قيل عنها إن الليل فيها تباشير صباح، مدينة تجعلك تستنشق عبق الماضي، فكل حجر فيها يسافر بك عبر التاريخ، لتبحر في ذاكرتها التي لا تنسى، عالم من الأقاصيص ومزيج من الحكايات التي لا تنتهي. وقفت مكتوفة الايدي منحنية الرأس أمام جمالها كما فعل ملك الحسن حينما قال انه مقتول مفتون بها، واخترت من بين معالمها التي لا تعد ولا تحصى سوق الذهب والمعادن الثمينة.

عرفت المدينة القديمة في طرابلس بوجود عدد كبير من الأسواق الشعبية، ولعل من أهمها هذا السوق الذائع الصيت على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث يعتبر قبلة لليبيين والسياح على حد السواء، ويشغل مساحة واسعة تشمل عدد من الأسواق القديمة إلى جانب المناطق الحديثة.

السوق عبارة عن تجمع من المحلات التجارية المتراصة التي يرجع تاريخ إنشاء بعضها إلى العهد القرمنللي، ومن أهم الأماكن الموجودة فيه "فندق بن زكري" وهو مبنى مكون من طابقين تراصفت محلاته على شكل دائري، هذه المحلات صغيرة الحجم، أبوابها دائرية الشكل خضراء اللون صنعت من الحديد، ويتوسط البناء نافورة صغيرة. في هذا التجمع تتم عملية سبك وصياغة الذهب والفضة منذ زمن بعيد، وينطبق هذا على فنذق ميزران أيضا .

شملت محلات الذهب سوق العطارة "سابقا"، وهو سوق مفتوح على هيئة ممر كما جرت العادة في الأسواق القديمة، وقد تراصت المحلات على جانبيه في تسلسل منتظم، ويبدو من شكل البناء أن جزءا منه قد استحدث في العهد الايطالي، واستخدم هذا السوق في السابق لبيع المواد العطرية بجميع أنواعها، والأعشاب الطبية، ومستلزمات الأعراس أما الان فقد ضم إلى سوق الصياغة، حيث تم نقل الأول إلى مكان آخر داخل المدينة القديمة يعرف بـ"زنقة الدباغ "، وأصبح الأخير مكان لبيع الذهب والفضة.

هناك أيضا السوق المحلى الذي تم تأسيسه في السبعينات من القرن الماضي، حيث كان في البدء ساحة مفتوحة لبيع الصوف، ومن ثم تحول لبيع الذهب والفضة ونقش النحاس والعاج، أما عن سوق الصناعات التقليدية فقد كان يسمى في السابق بدار البارود، حيث كانت تطلق من أعلاه مدافع إعلان العيد ورمضان وهي "عادة متبعة في اغلب الدول الإسلامية للتنبيه عن مواعيد الإفطار في شهر رمضان ".

استخدم بعد ذلك كمركز للشرطة وفي عام 1935 أمر حاكم طرابلس بهدم دار البارود وإقامة السوق عليها، وبعدها أحدثت به مدرسة للخزف والفخار وأخرى لتعليم صياغة الذهب والفضة وطرق النحاس ونقش المعادن، ويرتبط هذا السوق من خلال أحد مداخله بسوق المشير، كما يتصل بالسوق المحلي بمدخل آخر، وبثلاث مداخل أخرى لسوق العطارة، و مدخل أخر كمنفذ إلى جانب فندق بن زكري، وكما يوجد مدخل يطل على أمانة الداخلية بباب الحرية وهو مغلق الان، وأخيرا مدخل بالجهة المقابلة غير مطل على الساحة. وما إن تدخل إلى ذلك المكان حتى تشعر بأنك تتحرك داخل متاهة من السهل الدخول إليها ولكن من الصعب الخروج منها.

تباع في هذا السوق الأشياء التقليدية التي تستهوي السياح من بسط صوفية وأحزمة وحقائب وأحذية ومشغولات تراثية.

اعتمد السوق في السابق على الفضة أكثر من الذهب، وذلك بسبب غلاء أسعاره في ذلك الوقت، حيث لم يكن في استطاعة العامة شراءه، ومن أهم المصوغات الفضية التي كانت تستخدم بكثرة الخلاخل واللبة وهي حلى تستخدمها النساء للزينة، وخاصة في الأفراح، وتوجد أيضا أحزمة الفجرة "والفجرة تسمية قديمة للفضة" حيث كانت السلطات تستورد الفضة من ايطاليا، وكانت حينها أكثر تطورا في صياغتها من الذهب الذي بدأ الناس بشرائه بعد ظهور النفط ومارافقه من تحسن في مستوى المعيشة، ويتم جلب الذهب الخام من ايطاليا وسويسرا وفرنسا ولندن، أما الذهب الخام المختلط بالقصدير والنحاس فيجلب من أفريقيا ثم يرسل إلى ايطاليا من اجل تنقيته وإعادة توريده إلى ليبيا من جديد، وهو عادة ما يكون من عيار 22 قيراط ،وفي نهاية القرن العشرين بدأ الليبيون بتصديره إلى تونس ومصر.

ومن الجدير بالذكر أن صياغة الفضة أخذت الآن بالاندثار، بينما تشهد صياغة الذهب تطورا مستمرا.

ومن جهة أخرى نجد أن السوق لايخلو من تجارة المصوغات الذهبية المستعملة، وهى بالطبع تعرض بأسعار اقل، الأمر الذي يتيح لذوى الدخل المحدود فرصة لاقتنائها، ويذكر أن هناك مقاييس تتحكم في تجارة المصوغات المستعملة تتعلق في الغالب بجودتها، فإن كانت تألفة بيعت بسعر أقل، حيث يعاد سبكها وتشكيلها من جديد، وكثيرا ما يضاف إليها معادن ثمينة أخرى لتخرج بشكل جديد يساير الموضة السائدة في الأسواق,
حيث اجتاحت السوق في الفترة الأخيرة صرعات موضة مختلفة ومن أهمها الذهب الخليجي، ولا نعنى بذلك أن الذهب قد تم استيراده من الخليج بل ما يصنع منه محليا ولكن تمت صياغته بتشكيلات خليجية، وتستخدم النساء الليبيات هذه الحلي مع العبايات الخليجية التي أصبحت منتشرة في ليبيا بشكل كبير، مواكبة منهن لأخر صرعات الموضة.

في الماضي كانت أسعار الذهب ترتفع كثيرا في فصل الصيف بسبب كثرة الأعراس والمناسبات أما اليوم فلم يعد الارتفاع مقتصرا فقط على هذا الموسم، إذ تقام الأعراس طوال السنة، وهذا ما فهمناه من خلال حديثنا مع الباعة المتواجدين في السوق.

وبالإضافة إلى المحال التجارية الموجودة لبيع الذهب توجد ظاهرة قد تكون جديدة، فهناك نساء يجلسن على جانبي الطريق يقمن أيضا ببيع الذهب وشرائه، وغالبا ما تكون أسعارهن في البيع اقل من أسعار المحلات، فقد وفرت عليهن ضرائب المحل، وأجرة الكهرباء، وغيرها من المصروفات التي يقوم أصحاب المحلات بدفعها، واللافت للنظر أنهن يلاقين إقبالا كبيرا من حيث البيع والشراء إلا أن البعض يفضل أن يشترى من المحل فيعتبره أكثر ضمانا حيث أن فرق السعر ليس بكبير .

استطلعنا آراء بعض الباعة وأصحاب المحلات الذين التقيناهم أثناء تجوالنا في دهاليز السوق وكان لنا حديث مع الحاج احمد محمد الكارمي -67 سنة- الذي عاش في السوق منذ سنة 1955، ويملك محل في "فندق بن ذكرى" عمره 48 عاما، لم يعمل الحاج احمد في أي حرفة أخرى سوى الصياغة، وقد واكب الفترة التي بلغت فيها صناعة الفضة ذروتها ومن ثم فترة دخول الذهب إلى أن احتل الصدارة، وللسوق في الماضي مذاق خاص لدى الحاج الكارمي، وهو يرى أن الحال كان أفضل مما هو عليه الآن حيث وفرة المواد الخام ويسر المعيشة، ومن خلال عمله في السوق طيلة هذه المدة اكتسب خبرة كبيرة وأصبح قادرا على صياغة المشغولات الشعبية والقطع الحديثة بإتقان شديد وقد قام بتوريث حرفته لأبنائه، وقد تحدثنا مع ابنه يحيى -21 سنة- الذي يرى من جهته أن الذهب شأنه شأن الملابس فيما يخص الموضة فهو دائم التغير والتجديد .

أما عبد الحكيم التونسي فلا يملك متجرا في السوق حيث أن محله تابع لجهاز مشروع المدينة القديمة "سوق الصناعات التقليدية " و قد أكد بدوره على التطور الذي شهدته صياغة الفضة، مع الاحتفاظ بمكانة المصوغات القديمة باعتبارها جزء من التراث، ففضة العروسة مثلا من الفلكلور الشعبي (ويقصد بها الحلي التي تزين بها العروس) الذي لا يمكن الاستغناء عنه وهى من الحلي التي يتم طلبها بكثرة حتى وقتنا الحالي، وتتصف بغلاء أسعارها، أما عن الذهب الأبيض فقد أضاف بان هذا النوع من الذهب لا يلاقي قبولا من قبل الليبيين، وذلك بسبب لونه الأشبه بلون الفضة، حيث تفضل المرأة الليبية شراء الذهب الأصفر للتباهي به أمام النسوة في مجالسهن.
كما التقينا بالحاج عبد الرزاق الكافي الذي يعمل في صياغة الذهب بتصميمات باكستانية ويستعمل أثناء الصياغة بعض الأحجار الكريمة كالروبين والزمرد، وأسعار هذه المصوغات اقل، نظرا لأنها مصنعه محليا إذ أنها توفر على الشاري تكلفة الاستيراد من الخارج.

أخيرا يمكننا القول بأن من يزور سوق الذهب والمعادن الثمينة بالمدينة القديمة في طرابلس لابد وأن يعيد زيارته ليتجول في تلك الدهاليز الغالية الثمن، ويرى بأم عينه جمال طرابلس المتمثل في بريق تلك الحلي المعلقة وفي عراقة ذلك السوق

No comments: