Thursday, 8 October 2009

الفقيه المثقف الصوفي الشيخ أبوبكر بلطيّف

ولد فقيهنا المثقف الصوفي الشيخ أبوبكر محمد أحمد بلطيّف بالمدينة القديمة بطرابلس عام 1883 (تقريبا)
من عائلة معروفة في طرابلس، فقد كان جده الشيخ أحمد بلطيف "شيخ البلد" بطرابلس أبان العهد
القره مللي .
كان شيخنا متوسط القامة، جسمه إلى النحافة أميل منه إلى السمنة، وقد عرف عن هذا الشيخ الفاضل سماحته
وبشاشته وبسمته الرقيقة التي لا تفارق محياه ووجهه الأبيض المشرب بحمرة خفيفة، وكأنه نور يشع منه، كما
عرف عنه زهده وهدوءه وطيبته وكلامه الهادئ البسيط، مع غضبته لله.
وإضافة لحفظه كتاب الله ومعرفته لأحاديث نبيه الكريم واطلاعه على مختلف أفرع العلوم الدينية، فقد عرف عنه
تصوفه وحبه ومشاركته الفعالة لحضور الاحتفالات الدينية التي تقيمها الزوايا الصوفية المتعددة وعلى الأخص
" زاوية القادرية " بالمدينة القديمة، صحبة شيخها الفقيه الصوفي علي سيالة (توفي عام 1956)، رحمه الله
والتي لازالت السيرة النبوية العطرة التي ألّفها عن خير البرية رسولنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، تقرأ
بطريقة الشيخ المميزة بمناسبة ليلة مولد الرسول الشريف بـ "جامع الناقة" المقابل للزاوية القادرية حيث يتسع
هذا الجامع الكبير للحشد الهائل من محبي المصطفى وتراهم مصغين للقصة والدموع تسيل من مآقيهم
والعبرات تخنق قارئيها.
كما كان حضوره دائما في "زاوية أبي مشماشة" صحبة الفقيه الصوفي المجاهد الشيخ سعيد المسعودي
(ت1961) رحمه الله، وذلك في المناسبات الدينية وخاصة في مولد سيد الكائنات حيث كان يهيم مع
الهائمين في حب الله وحب نبيه الكريم، صلوات ربي وسلامه عليه. هذا بالإضافة إلى حضوره في
الزوايا الأخرى مثل "الزاوية الصغيرة" و "الزاوية الكبيرة" بالمدينة القديمة.
كان شيخنا قارئا جيدا، مثقفا ومحبا للإطلاع على كافة ما يدور في العالم وخاصة العالم العربي والإسلامي،
فكان يقتني ما ينشر من جديد الكتب والمجلات مثل (المصور وآخر ساعة) المصريتين ومن مختلف
العلوم ولمختلف الأعمار وحتى بعض قصص الأطفال التي كان يضعها بالقرب من باب (مربوعته)
في متناول صغار العائلة وزوارها وكأنّي به يشجع الصغار على القراءة. كما كان يقتني الكتب بنفسه
من المكتبات وخصوصا من "مكتبة الفرجاني"، بشارع الوادي أو من "مكتبة النجاح" التي (كانت)
تقع ب "سوق الترك" بالمدينة القديمة والتي كانت تزخر بروائع الكتب وأمهاتها (إلا أنها لأسباب
معروفة مؤلمة على النفوس وعلى الثقافة أقفلت منذ نحو عقدين).
فما كان يرى في بيته إلا وهو مفترشا الأرض ممسكا بكتاب ومكبا على كتب أخرى كثيرة منتشرة حوله،
وإن كان سائرا فبيده مجموعة من الكتب، وما دخل يوما بيته بعد الظهر إلا وبيده رزمة من الكتب، حتى
أن زوجته رحمها الله، كانت تعلّق بطرافة على ذلك بأنها " تتمنى أن ترى بيده اللحم والخضرة بدلا من
هذه الرزمة من الكتب التي لا تشبع البطون ".
وروى لي أحد تلامذته أن مستشرقا قام بزيارة إلى طرابلس فاستضافه شيخنا في بيته ولما رأى
المستشرق هذا الكم الهائل من الكتب في (مربوعة) الشيخ أخده العجب وسأله:
وهل قرأت كل هذه الكتب ؟! فأجابه شيخنا متبسما: ولما اشتريتها إذا ؟!
فلا غرو إذا بأن مكتبة شيخنا الخاصة (بمربوعة) بيته والزاخرة والمزدحمة بأمهات كتب الدين
والأدب الرفيع كانت تحوي أكثر من ألف كتاب، وطبعا معظمها كتب دينية. فبعيد وفاته رأت
"الجامعة الإسلامية" (آنذاك) شراء كتبه فكلفت اثنين من كبار الشيوخ النزهاء المتخصصين
في المكتبات، أحدهما الشيخ الفاضل الحاج محمد أبوريون صاحب "مكتبة النجاح"، أطال الله في
عمره ومتعه بوافر الصحة، بأن يقوما بجرد وتثمين كتب شيخنا. وقد قاما بذلك وتم شراءها بثمن
سخي نظرا لندرتها وتشجيعا للعلم والعلماء، وضمتها الجامعة لمكتبتها.
2- رواية المرحوم الأستاذ محمد جميل، من سكان محلة ميزران وتلامذة الشيخ.
كان شيخنا، أسوة بالمشائخ الفقهاء الآخرين في عصره، يلقي دروسا في مختلف أفرع العلوم
الدينية مثل التفسير والحديث وعلم الأخلاق، بالمساجد والجوامع الكبيرة التي تزخر بها مدينة
طرابلس مثل " جامع أحمد باشا " الواقع في " سوق المشير" و "جامع سيدي حمودة" الذي
(كان يوما ما وإلى نهاية السبعينيات الماضية قائما بميدان الشهداء – قلب مدينة طرابلس –
معلما من معالمها وتراث بل وتراث ليبيا بأجمعها)، و"جامع الناقة" و"جامع شايب العين" و
"جامع قرجي" بالمدينة القديمة وغيرها من المساجد والجوامع والتي لم تكن مساجد للعبادة
فقط بل (كانت) بمثابة المدارس والكليات والجامعات الإسلامية، بل تدرّس فيها أمهات الكتب
في الفقه والحديث الشريف والتفسير وغيره من الدروس الدينية، سواء لعامة الناس أو للطلبة
المتخصصين وتمنح لهؤلاء الطلبة إجازات (شهادات). حتى أنه يروى عن أحد المشائخ الكبار،
وكان يعيش بمنطقة "زاوية الدهماني" بمدينة طرابلس وهو الشيخ فوزي المسلاتي رحمه الله، أنه،
أسوة بأقرانه، ذهب في نحو الثلاثينيات من القرن الماضي إلى مصر لنيل شهادة تخصصية في العلوم
الدينية من الأزهر الشريف، إلا أنه حين امتحنه الأزهر لتحديد مستواه العلمي، فوجئ الممتحنون بأن
هذا الشاب القادم من ليبيا ملم إلماما تاما ودارس لكافة العلوم التخصصية التي جاء من أجلها لمصر
فخيروه بحضور أو عدم حضور الدروس بالأزهر لأنه يستحق الشهادة في كل الأحوال.
3- رواية عن الحاج عبد المجيد بن الشيخ عبد الحميد بن عاشور، رحمهما الله، وهما من سكان زاوية
الدهماني كما تربطهما بعائلة الشيخ المسلاتي صلة القرابة.
وقد درس على يدي شيخنا العديد من طلبة العلوم الدينية من مختلف أنحاء ليبيا والذين أصبحوا فيما بعد
فقهاء وعلماء ومشائخ كبار، مثل الشيخ العالم عبد الرحمن محمود القلهود رحمه الله، (ت 1976)
والذي تولى إدارة الإفتاء وغيرها من المناصب الهامة في الستينيات، بعد أن أكمل تخصصه في
الأزهر الشريف، والشيخ المقرئ الخطيب محمد أبوسنينة رحمه الله (ت2002) الذي ذكر عن شيخنا،
وكان مجلا وكثير الذكر له في خطب الجمعة ب "جامع قرجي" و"جامع القدس"، بأنه " كان "يقدف"
بالعلم في عقول وقلوب الطلبة قدفا. كما نذكر من تلاميذه الفقيه المقرئ بجامع ميزران الشيخ محمد
المصباحي، أطال الله في عمره ومتعه بوافر الصحة، والشيخ رمضان السعداوي رحمه الله (ت2001)
الذي كان محبا ومجلا لشيخنا ودائم الذكر عنه وعن الشيوخ الأجلاء الآخرين في دروسه الفقهية التي
يمل سماعها وهو يرويها بأسلوبه الشيق الناذر، والتي كانت تسبق خطبة الجمعة ب "جامع المعزي"،
وكذلك الشيخ محمد سباكه رحمه الله الذي كان من محبيه وكان يحث مريديه وتلاميذه بكتّابه الواقع
بجوار جامع درغوت، بأن يزوروا قبر شيخنا، وعلماء أفاضل آخرين رحمهم الله وإيانا جميعا.
كما روي بأن شيخنا كان يدرّس لطلبته ومريديه "تفسير الطنطاوي جوهري" وكان هذا التفسير
الجديد في النشر وفي المنهج، آنذاك، يعطي أهمية كبيرة للعلوم الحديثة ويغوص كثيرا في بحارها
وهو يفسر آي القرآن الكريم، لدرجة أن بعض مريديه الذين لم يتعودوا على مثل هذا النمط والأسلوب
والمنهج في التفسير رأوه غريبا بعض الشيء، فذهبوا إلى شيخ الشيوخ وقاضي قضاة طرابلس فضيلة
الشيخ العلامة عبد الرحمن البوصيري رحمه الله (ت 1935) يسألونه في هذا الأمر، وذكروا له ما
سمعوه من تفسير شيخهم. فاستدعى شيخنا وطلب منه الإطلاع على هذا التفسير، وبعد أن اطلع عليه
مليا أجازه بل وشجعه على إتباع هذا المنهج.
ومما يروى عن سماحته، وعفوه عمن يؤذونه أنه أثناء نزوحه، تفاديا لمعارك الحرب العالمية، أو ما
يعرف باللهجة الطرابلسية "الهجّة " وذلك لفترة مؤقتة في إحدى المزارع البعيدة عن مدينة طرابلس،
مع عائلته وعائلة صهره وعائلة الزنتوتي، أن كان شيخنا جالسا القرفصاء على حافة حوض " الجابية "
يتوضأ للصلاة، فكان من أحد أبناء الزنتوتي (مسعود، ومحمد، ومصطفى رحمهم الله، وعلي، أمد الله في
عمره وكانوا في مقتبل العمر آنذاك)، إلا أن ضرب الكرة أثناء لعبهم بقوة شديدة فأصابت شيخنا فانكفأ في
الحوض وهو مليئا بالماء. ولكن شيخنا لم يغضب وسامحهم.
عاش شيخنا حياة متواضعة مع الكتب والمساجد والزوايا الصوفية والتي كان يواظب فيها على حضور ليلة
" الختم " النبوي، ويأخذ " الصيغة " مرة واحدة. وفي آخر عام من حياته حضر فيها ليلة الختم بزاوية أبي
مشماشة أخد بنفسه جميع الصيغ، وكأنه بذلك يحس أو يشير بأنه يودع هذه الحياة.
كان شيخنا يقطن مع زوجته السيدة زينب محمد الباهي (شقيقة صاحبه الشيخ امحمد الباهي، باش كاتب
المحكمة الشرعية من الثلاثينيات إلى الخمسينيات المتوفي عام 1960) ومع ابنيه محمد وأحمد رحمهم
الله جميعا في بيت بشارع "الساعدية" المتفرع من شارع ميزران ثم انتقل إلى "الطنطونة" بشارع مواز ل
" شارع المغاربة "، حيث وافته المنية هناك في أبريل (الطير) من عام 1960 ودفن في
" مقبرة سيدي منيدر " (التي أقفلت الآن كغيرها من المقابر بمدينة طرابلس ؟؟!!)، وله عدد من الأحفاد،
أحدهم يحمل اسمه.
وعندما وافت المنية شيخنا وبعد الصلاة على جثمانه، قام أحد تلاميذه الأوفياء وهو الشيخ عبد الرحمن
القلهود رحمه الله بتأبينه، ومما ذكره في التأبين : " إن الشيخ أبابكر كان جامعا للتصوف والفقه،
فقد ورد إلى ليبيا من الأزهر الشريف مسألة فقهية معينه في فقه الإمام مالك ولم يكن هنا من عالم
فقيه استطاع أن يردّ فيها على هذه الفتوى سوى الشيخ الفقيه أبوبكر بلطيف ".
3 - " الصيغة " : هي كلمات يختارها ويذكرها شيخ الذكر ويرددها وراءه الواقفون في حلق الذكر
وهم يتمايلون معه بتؤدة يمنة ويسرة على إيقاع كلماتها مثل "الباقي لا يفنى" و "يا من له القدرة داوي
القلوب تبرى" وتستمر الصيغة الواحدة نحو عشرة دقائق أو أكثر.
4- رواية عن الحاج امحمد الصغير " شاوش" وإمام زاوية أبومشماشة.
وهكذا رحل شيخنا الفقيه المتصوف المثقف، إلى حيث يرحل الناس جميعا، إلى الجبار المهيمن،
وكما رحل غيره من العلماء الفقهاء، الذين كانوا كالورود والأزهار تعبق روائح سيرهم ودروسهم
مدينة طرابلس وتزدان بهم حتى نهاية القرن الماضي، والتي أصبحت الآن تعج بمختلف أنواع البشر،
إلا في ما نذر من هؤلاء الشيوخ العلماء، كما اختفت معهم تلك الدروس القيمة المنظمة التي كانوا
يقومون بإلقائها في المساجد، مما خلق فجوة كبيرة في الثقافة والوعي الديني السليم لدى عامة الليبيين
وخصوصا الشباب منهم وأضحت بعض المساجد أماكن لتنامي التيارات الدينية الجديدة التي لم نعهدها من
قبل، فألف رحمة علي شيخنا الفقيه المثقف الصوفي، الذي يكاد نموذجه أن ينقرض من ليبيا، وأصبحوا
يعدّون على الأصابع فحفظهم الله وأمتعهم بوافر الصحة، وعلى جميع علمائنا وشيوخنا الفقهاء الأفاضل
الذين ساروا إلى رحمة الله ألف رحمة، ونسأل الله أن يعوضنا فيهم خيرا.
هذه نبذة بسيطة جدا عن علم من أعلام الفقه والصوفية الحقة في ليبيا والذين كان كل واحد منهم منارة
من المنارات العلمية والدينية ومدرسة من المدارس الفكرية، والحديث عنهم مشوق وذو شجون ولكن
للأسف لم نجد من المخطوطات أو الكتب أو المقالات عنه ما نستزيد ونوثق به مقالنا هذا غير الروايات
التي ذكرنا مصادرها، ونأمل أن نكون قد أعطينا ولو نبذة بسيطة عنه، ولو أننا نعلم أننا لم نوفه حق قدره من التعريف.

No comments: